مقال
لفضيلة الشيخ "أبو عبيدة" مشهور بن حسن آل سلمان
حفظه الله تعالى ورعاه
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،
أما بعد:
علماء الأمة تحدثوا عن حكم السعي في المسعى الجديد، والمتتبع لما ينشر على الشبكة العالمية "الإنترنت"، يجد أن هناك أحاديث ومقالات وآراء ودراسات في المسألة وأنّ هناك بعض الأقوال المتعارضة، والذي فهمته أنّ في نية المسؤولين فتح المسعى الجديد الذي هو امتداد للمسعى القديم وجزء منه، وجعله للسعي بين الصفا والمروة، وجعل السعي القديم سعي من المروة للصفا، وبذا يكون المسعى قد تضاعف مرتين.
الناظر -ولا سيما فيمن منّ الله عز وجل عليه بالحج في السنوات الأخيرة- يجد ما للزحام الشديد قبل توسعة مرمى الجمار في منى من أثر بالغ في لحوق المشقة بالحجيج والتي أدّت -في بعض المواسم- إلى موت العشرات منهم، وما ذكرنا في شأن الرمي نراه ينطبق تماماً على مسألة السعي بين الصفا والمروة.
قد كان لهذه المشقة أثر واعتبار في نظر العلماء في توسيع المطاف نتيجة للزحام البالغ في طوافي الإفاضة والوداع، فما دامت الصفوف قد اتصلت في داخل صحن الكعبة والناس يطوفون فحاله حال المسجد، والتوسعات التي جرت في الحرمين الشريفين ابتداءً من عهد عمر فعثمان -رضي الله عنهما- فابن الزبير –رضي الله عنه-، ثم أحدث المهدي سنة 160هـ توسعته الأولى في الحرم، ثم في سنة 164هـ أحدث توسعة أخرى، وكانت التوسعة الثانية للمهدي، وأخذ جزءً من الرحبة من المكان الممتد الذي كان من جهة غرب المسعى وأدخله في المسعى، والأئمة ممن ألّفوا في تاريخ مكة كالفاكهي والأزرقي وغيرهما تكلموا كثيراً حتى إن القطبي في كتابه "الإعلام" ذكر إشكالات في موضوع السعي، تشبه تماماً الإشكالات الحاصلة في هذا الوقت.
وقد وردت أسئلة كثيرة من بلدان العالم من "المملكة المتحدة" و "أمستردام" وأماكن أخرى حول حكم السعي في المسعى الجديد فأجبت بما مفاده:
مسألة توسعة المسعى مسألة حاول سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ -شيح المشايخ وشيخ الشيخ ابن باز رحمهما الله- أن يضبط عرض المسعى في جهود مشكورة في الجزء الخامس من كتابه "الفتاوى" ودرس موضوع المسعى دراسة جيدة –أثابه الله-، وكان ذلك إبّان التوسعة السعودية الثانية في المسعى والتي كانت أكبر توسعة في التاريخ، والتي استمرت قرابة عشرين عاماً، ووجد في حينها أنّ المسعى يقبل الامتداد من جهة الشرق، وكانت هناك دور ومنازل على المسعى، والكلام عن المسعى وتوسعته طويل وكثير ولو صرنا نستعرض الكلام بالتفصيل لنصل إلى تأصيل وتقعيد في المسألة لاحتجنا إلى وقت طويل، ولكن للقضاء على الخلاف البسيط أرى أنه لا بُدَّ من دراسة هذا الموضوع في المجامع الفقهية وهيئة كبار العلماء، فهذه مسألة كبيرة تحتاج لاجتهاد جماعي ورأي جماعي بعد دراسة المسعى والتطورات والتغييرات التاريخية، وبعد هذه السلسلة الطويلة والكثيرة من الدراسات والأبحاث الجديدة التي لا شك أنها أضافت شيئاً يستحق معه إعادة النظر في دراسة الموضوع مجدداً، أرى أنه لا مانع من أن نذكر رأينا ونحاول أن نلملم أطراف المسألة بقدر المستطاع، أقول: سبب الخلاف في المسألة منذ أن كانت التوسعة؛ هو هل المكان الذي يسعى فيه الناس مكان مقصور محدود أم أنه ممدود ؟ وهل عرض المسعى المذكور في كتب تاريخ مكة -مثل كتاب الأزرقي والفاكهي وغيرهما، وقد ذرعوه بخمسة وثلاثين ونصف ذراع- هو المكان المعدّ للسعي، أم أنّ هذا الإخبار عن الأمر الواقع فحسب، والمكان الذي يجزء السعي فيه أوسع من ذلك وأنّ السعي ما دام واقعاً بين جبلي الصفا والمروة فهو صحيح ومجزء، وإن هُجر السعي فيه فترة من الزمن، لعدم احتياج الناس لذلك ؟
أرسل الشيخ العلامة السّعدي –رحمه الله- لشيخنا في الإجازة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز ابن عقيل مراسلات في مسائل كثيرة ومنها توسعة المسعى بتاريخ 21 ذي الحجة سنة 1375هـ ومما جاء في الرسالة قول الشيخ السعدي لتلميذه: "وكذلك المسعى منهم من قال إنّ عرضه لا يحد بأذرع معينة، بل كل مكان بين الصفا والمروة فهو داخل في المسعى كما هو ظاهر النصوص من الكتاب والسنة وكما هو ظاهر فعل النبي وأصحابه ومن بعده ومنهم من قال: يقتصر فيه على الموجود لا يزاد فيه إلا زيادة يسيرة أي في عرضه، قال: هذا هو قول أكثر الحاضرين".
وصدرت فتوى عن هيئة كبار العلماء في ذلك الوقت أنّ المسعى قد حدّ في عرض محدود ولا تجوز الزيادة عليه، ولذا رأوا أنّ توسعة المسعى تكون من خلال بناء دور ثان علوي بدلاً من مدِّ المسعى من جهة الشرق.
والفتوى قد صدرت باسم سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم وكان المفتي العام آنذاك.
يقول الشيخ السعدي: "ويظهر من حال الشيخ محمد بن إبراهيم أنه يعمل على قول هؤلاء لأنه لا يحب التشويش ولا الاعتراض على أحد".
ثم ظفرت برسالة خطية بقلم العلامة المحقق ذهبي أهل العصر الشيخ المعلمي اليماني –رحمه الله- والرسالة ليست مطولة ولم يمد فيها النفس –كعادته- ولكن ذكر فيها جواز توسعة المسعى ورأى أن العبرة بالسعي لا بالمكان.
ولسماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم رسالة في جواز تنحية المقام عن مكانه من أجل التوسعة على الطائفين، وقد سبق لما أن ذكرنا أن الصفوف ما دامت أنها موصولة وأنّ الطواف يقع في بيت الله الحرام فمهما زِيْد فالزيادة لها حكم الأصل، وما قارب الشيء أعطي حكمه، كما هو معلوم من كتب أهل العلم، وقد نقل في رسالته كلاماً جيداً للرملي المسمى بالشافعي الصغير في "نهاية المحتاج" وهو قوله:
"لم أر في كلامهم ضبط عرض المسعى وسكوتهم عنه لعدم الاحتياج إليه، فإنّ الواجب استيعاب المسافة التي بين الصفا والمروة كل مرة"
ثم ظفرت بحواشي عبدالحميد الشرواني ويقول فيها ما معناه "إن ضبط العلماء للمسعى إنما هو ضبط تقريبي ولا حاجة لضبط عرض المسعى".
والسعي طولاً من حيث نقطة البدء والانتهاء في كل شوط مع المرور من بطن الوادي هو الذي فعله النبي ، والفقهاء ينصون في كتبهم على وجوب استيعاب المسافة بين الصفا والمروة (1)، وأن البدء بالصفا والانتهاء بالمروة في كل مرة هو شوط، ثم العودة من المروة إلى الصفا هو شوط ثان، والواجب السعي سبعة أشواط دون النظر إلى عرض المسعى ذلك أنّ الصفا جبل والمروة جبل والعبرة أن يقع السعي بينهما، فإذا كانت التوسعة الجديدة ضمن عرض المسعى فلا ينبغي التردد في الجواز ألبتة، وعرض المسعى اليوم عشرون متراً والجبال -كما هو معلوم- من حيث العرض أوسع من عشرين متراً، ذلك أنّ أصل السعي كما في "صحيح البخاري" برقم (3364) من حديث ابن عباس في قصة إبراهيم مع أم إسماعيل والقصة طويلة وأنه تركها وابنها بقرب بيت الله الحرام وفي آخر القصة "وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء الذي وضعه بجانبها حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى أو قال يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه وهو يموت، فانطلقت فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر فلم تر أحداً، ثم هبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف ذراعها ثم سعت أي ركضت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة -الجبل الذي يقابل الصفا- فقامت عليه فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس قال النبي : "فذلك سعي الناس بينهما" أي فعل أم إسماعيل الذي فعلته.
ولا يمكن تحديد المسار الذي سارت فيه أم إسماعيل على الجبل بل لا يمكن أن نحدد المسار الذي سار فيه النبي على الجبل، ويمكن أن نقول أنّ ما سكت عنه الشرع فهو في دائرة العفو، والنبي حدد الأمر بطرفيه طولاً وسكت عن العرض الذي بين الأمرين، وبتغيير معالم الجبلين ووجود الحواجز وبناء الجدار الذي يحد المكان في العصور المتأخرة وتحديد المقاييس في المكان الذي أصبح يؤدى فيه السعي آنذاك، وتحديده بالأذرع أو بالأمتار أو بالأصابع تولدت المشكلة ووقع الخلاف، هل هذا المكان الذي يسعى فيه هو المكان الذي يحدد ولا يقبل الزيادة عليه أم أنّ الأمر على أصله في سعة، يقول الشرواني في "حواشيه على تحفة المحتاج" (الجزء الرابع ص98)، ونص كلامه: " ولك أن تقول الظاهر أن التقدير بعرضه بخمسة وثلاثين على التقريب إذ لا نص فيه يحفظ من السنة".
نعم، الواجب السعي في المكان الذي بين جبلي الصفا والمروة، العبرة بأصل المسعى آنذاك كما هو معلوم، فإن تعارف الناس على مكان محدد خاص في المسعى فهذا لا يلغي أن يكون ما تبقى من الصفا أو ما تبقى من المروة من شعيرة المسعى، فقد هجر الآن تحول الساعي في المسافة المعدة في الشق المخصص للتحول من الصفا إلى المروة، وكذلك في الشق المخصص للتحول من المروة إلى الصفا، فلو أنّ حاجاً أو معتمراً اقتصر في سعيه على شق واحد من المسعى لأجزأ ذلك، من غير خلاف إذ علّق الشرع الحكم بالسعي على ما بين الجبلين، فلا يدل عدم فعل السعي في المكان الذي هو من شعيرة المسعى على عدم الإجزاء إن هجر الفعل فيه، المهم أن لا يكونا قد خرجا عن كونهما من المسعى، فإذا كان المسجد -أعني المطاف- قد وسع فيه وسوغ العلماء الزيادة فيه وكذلك مسجد النبي حتى عمر رضي الله عنه لما وسع المسجد كان يقول: "لو مد مسجد النبي إلى ذي الحليفة لكان منه".
وقرر شيخ الإسلام في "الرد على الأخنائي" ( ص 135 ) أن حكم الزيادة التي تمد في المسجد النبوي وكذا في المسجد الحرام يضعَّف فيها الأجر وليس الأجر المضعَّف الركعة بمائة ألف أو بألف ليس فقط في الصلاة التي كانت تصلى في المكان الذي صلى فيه النبي فقط، فالمسعى مع ضيقه منذ القدم من باب أولى، وقد ذكرت في نصوص كثيرة وشهيرة ولا سيما في كتب الرحلات، وقد تتبعت -فيما أزعم ذلك- تتبعاً حسناً وتبيّن لي أنّ المسعى قديماً كان يتسع للمقدار المضاف اليوم للمسعى القديم وزيادة، ذلك أنه كان باقي المسعى – الذي هجر فعل السعي فيه آنذاك - سوقاً يجلس فيه الباعة وشكا غير واحد قديماً وحديثاً أنهم كانوا يشوشون على الساعين.
فمثلاً ابن بطوطة في رحلته "تحفة النظار في غرائب الأمصار" في (الجزء الأول ص 380-381 من الطبعة المغربية) لما حدّ المسعى وتكلم عليه قال: "وبين الصفا والمروة مسيل فيه سوق عظيمة تباع فيها الحبوب، واللحم، والتمر، والسمن، وسواها من الفواكه، والساعون بين الصفا والمروة يكادون يغطسون من زحام الناس على حوانيت الباعة، وليس بمكة سوق منتظمة سوى هذه،-أي هذه السوق- إلا البزازون والعطارون عند باب بني شيبة".
ووجدت في كتاب "الأيام المبرورة في البقاع المقدسة" (ص72) لمحمد لطفي جمعة، -وكانت رحلته في شتاء سنة 1359هـ الموافق 1940م- قوله: "خرجنا من باب الصفا غير مصدقين أننا نغادر الكعبة حتى لضرورة السعي بين الصفا والمروة، ولكنه فراق مؤقت لم يكن منه بد، وكنا ما زلنا في وقت لا يتبين فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود -يعني في وقت السحر-، وما كان أعظم دهشتي عندما وجدت المسعى شارعا مبلطاً بالحجر الأزرق الغليظ الذي بين مربعاته الضخمة فوارق وعلى جانبه دكاكين ومتاجر ومنه تتفرع حارات وشوارع".
هذا المسعى قديماً، وبُني الجدار في عصور المتأخرين، لا نقول إنّ المسعى فقط هذا المكان جبلان عرض الواحد عشرون متراً، فالجبل أوسع من ذلك كما سيأتينا في كلام ابن جرير الطبري.
ويقول عبدالوهاب عزام في كتاب "الرحلات" (ص363) –وكان قد ذهب للحج سنة 1937م- معبراً عن مشاهداته للمسعى: "ثم يرجو كل مسلم أن يصلح المسعى بين الصفا والمروة، فيفصل عن السوق والطريق، ويجعل على شاكلة تشعر الساعي أنه في عبادة ينبغي أن تفرغ لها نفسه ويتم لها توجهه، وما أحوج الحرمين في مكة والمدينة إلى أن تزحزح عنهما الأبنية المجاورة ويدور بهما محيط واسع يظلله شجر..."إلخ.
والذي يقرأ كتب رحلات الحج في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين الميلادي يجد عجباً يقول غير واحد: كنا نشاهد بعض الملوك يسعون بالسيارة بين الصفا والمروة وقطعاً هذا معناه أن المسعى عرضاً أوسع من المسعى الموجود اليوم.
وقد وجدت في بعض الكتب أن جملاً دفن في المسعى، بل في ترجمة الإمام النسائي قيل أنه دفن بين الصفا والمروة.
الكلام في تغيير المسعى -كما ذكرت- كثير، وقد أحدث في بعض العصور إشكالات فقد ذكر الأزرقي في كتابه "وكان المسعى في بطن المسجد الحرام اليوم" يعني في توسعة المهدي سنة 164هـ، أدخل شيئاً من المسعى في بطن المسجد يعني أخذ من أطرافه من جهة الغرب، لأنّ المسعى كان في تلك الفترة فيه سعة، وفيه دور، والدار التي كانت بمسامة الميل الأخضر الأول الذي يسعى إليه كانت دار العباس عم النبي وآل هاشم وكانت رباعهم من تلك الجهة.
ووجدت في بعض الآثار عند ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/345 – ط الرشد) أو (8/331 – ط القبلة) عن مجاهد: أن المسعى قد انتقص منه، ومعنى انتقص منه أنهم كانوا يسعون ولا يستوعبون جميع المسافة آنذاك؛ أعني: من حيث العرض، فدار العباس كانت في المسعى، ودار الأرقم كانت فيه أيضاً، واشتراها أبو جعفر المنصور، وكانت دار الأرقم هي أول دار يجمع النبي الناس فيها للإسلام سراً في السنوات الثلاث الأول، وكانت قريبة من المسعى، ويقول يحيى بن عمران بن الأرقم –وهو من ذرية الأرقم بن أبي الأرقم- كما في "طبقات ابن سعد": "إني لأعلم اليوم الذي وقعت –أي الدار- في نفس أبي جعفر المنصور، اشتراها وجعلها لأم ولديه الخَيْزُران".
يقول يحيى: "إنه –أي أبا جعفر المنصور- وهذا خبر جاء عرضاً، -والأخبار التي تأتي عرضاً في كتب السيرة والتاريخ لها مصداقية وغالباً لا تقبل التزوير ولا التزييف- يقول يحيى بن عمران : وكانت داره في الصفا –إذ كان الصفا جبلاً وكان فيه دور- يقول: إني لأعلم اليوم الذي وقعت فيه –أي الدار- في نفس أبي جعفر إنه ليسعى بين الصفا والمروة في حجةٍ حجّها ونحن على ظهر الدار في فسطاس فيَمُر تحتنا لو أشاء أن آخذ قلنسوة لو كانت عليه لأخذتها –يعني أن الدار بجانب المسعى- ولو أردت أن أمسك رأسه لفعلت، -وهذا دلالة على أن المسعى كان فيه حارات وشوارع، والمسعى جبل واسع- وإنه لينظر إلينا من حين يهبط بطن الوادي حتى يصعد إلى الصفا.." إلخ كلامه.
فمن تلك الفترة وقعت الدار في نفس أبي جعفر المنصور فاشتراها.
يقول ابن جرير في تفسير قوله تعالى : ( إن الصفا والمروة ) [البقرة: 158] إن الصفا حجر أملس، وإن المروة جمع مروة والمروة الحجر الصغير يقول في (الجزء الثاني ص709 – ط هجر) وإنما عنى الله تعالى ذكره ( الصفا والمروة ) [ البقرة: 158] في هذا الموضع الجبلين المسمين الذين في حرمه دون سائر الصفا والمروة، فالأحكام إذاً معلقة بالجبل، والجبل غالباً تكون مساحته واسعة قال ولذلك دخل فيهما الألف واللام ليعلم عباده أنه عني بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين دون سائر الأصفاء والمرو، والشاهد أن الشرع علق السعي بالجبلين فمتى وقع السعي بين مسمى الجبلين أجزأ، ومنهم من اشترط أن تكون الطريق في السعي طريقاً معهودة موصولة يكون فيها الحجيج.
والخلاصة أنّ الكلام على المسعى طويل وكثير، وقد قمت بدراسةٍ وحققت فيها رسالة الشيخ المعلمي اليماني –رحمه الله- وعلقت عليها كثيراً، وقد مدّ القلم وأرخيت له العنان، وذكرت ما يمكن أن يرجِّح القول بالجواز متابعاً إياه في ذلك، وأشرت إلى المخالفين، وتبقى المسألة فيها خلاف، والقضاء على البلبلة لا يمكن أن يقع إلا من خلال كلمة تصدر من هيئة معتبرة عند أهل العلم تجتمع فيها الآراء وتقطع فيها جهيزة كل خطيب، لأن هذه المسألة خطيرة ومهمة ولها أثر على ركن من أركان الإسلام وهو الحج، وأسأل الله عز وجل أن يوفق علماء المسلمين لأن تجتمع كلمتهم في هذا الباب وغيره، وسأعمل قريباً إن شاء الله على نشر رسالة المعلمي اليماني -رحمه الله- بضميمة تعليقاتي عليها، أسأل الله عز وجل أن يجعل فيها غنية أو بلاغاً من عيش، والله تعالى أعلم وأحكم.
والخلاصة أنه لا حرج في السعي في المسعى الجديد، وأن المسعى الجديد هو في زيادة يشملها المسعى لأن النبي سعى في مكان واحد وهذا المكان لا نعرفه، وهاجر –كما قال ابن عباس في البخاري- سعت في مكان معين فلو كان لا يجزئ هذا السعي إلا فيه، لحجرنا واسعاً، وضيقنا على الناس بما لا طائل تحته، ولا فائدة منه، إذ لا أثر ولا مستند عليه وله.
والعبرة أن يكون السعي بين الصفا والمروة، وقضت سنة سبحانه أن لا يحدد الرواة مكان سير رسول الله ، ولا مكان سير هاجر، وألهم نبيّه محمداً أن يسعى ماشياً أحياناً وراكباً أحياناً، ليعلم أمته أن العبرة ليست في تتبع آثار الأقدام، ولا في الخط الذي سارت فيه، بل في سعيه راكباً دليل على عدم اشتراط مس الأقدام للمسعى، وأنه لو وضع عليه ردم فانتفخ، أو قطع الجبل، وأزيل ارتفاعه، وسعي في أصل أرضه لجاز، بل في سعيه راكبا إشارة –والله أعلم- إلى جواز السعي في الأدوار العلوية، فتأمل!
ويستفاد من ذلك أيضاً صحة السعي مع تغير تضاريس الجبلين الصفا والمروة وبوجود الردم والهدم مع مرور الزمن كما حصل في التوسعة السعودية قبل الأخيرة التي وقعت سنة 1375هـ بدأوا يحفرون وينزلون في أرض المسعى حتى وجدوا الأدراج، والذي يقرأ كتب الفقهاء في الحج يجد أنه يجب عليه أن يصعد على الدرج والآن ليس هناك درج، وقبل فترة قصيرة كانت هناك أدراج والأدراج الأولى دفنت ثم بنوا أدراجاً جديدة، ويقول صاحب "التاريخ القويم" -الكردي-: "المسافة التي كانت بين الأدراج التي رأيناها بعد الحفر قرابة المترين" والجبل قمة وقاعدة الجبل أوسع من رأس الجبل، فإذا سعينا على رأس الجبل نسعى في مكان ضيق، فإذا قطعنا رأسه وسعينا في قاعدته اتسع المكان ثم السعي.
فالعبرة بالسعي أن يكون بين جبل الصفا وجبل المروة ويبعد واقعاً وعقلاً أن يكون الجبل ممتداً فقط عشرين متراً، واليوم عرض المسعى بالضبط عشرون متراً، ولو كان كذلك، فيبعد أن يكون الجبلان (الصفا) و (المروة) يقابل بعضهما بعضاً بمسافة واحدة، لا يخرج هذا عن حدِّ هذا في العرض، ولو كانا كذلك لما ترك العلماء التنصيص على ذلك، وقد ذكر غير واحد أن المروة بإزاء الصفا بمعنى أن عرض كل منهما ليس بمتساوٍ تماماً، وهذا يدل دلالة واضحةً أن حال المسعى اليوم من حيث العرض من جراء الحفريات، فاقتطع من الجبلين مسافة تسامت الأخرى، وأن عرض كل منهما ممتد، على ما شهد به مجموعة من الثقات، ممن شاهد، وبعضهم –كأصحاب كتب الرحلات إلى الديار المقدسة- أقر ذلك، وهم جماعة كبيرة تباينت أمصارهم، وتغايرت أعصارهم، ويستحيل تواطؤهم على الكذب، والموقع الذي فيه المسعى الجديد من ضمن المسافة الممتدة من جهة الشرق، يظهر هذا جليّاً لكل من تابع الشهادات والمشاهدات، سواء المرقومة منها أو المسموعة، والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
( 1 ) وقد نصوا أيضاً على وجوب الصعود على الدرج في حين أن الآن ليس هناك درج وقبل فترة قصيرة كانت هناك أدراج، والأدراج الأولى قد دفنت ثم بنوا أدراجاً جديدة وقد وجدت الأدراج عند بدء الحفر في التوسعة السعودية قبل الأخيرة والتي كانت في عام 1375هـ، وأفاد الكردي في كتابه: "التاريخ القويم": "المسافة التي كانت بين الأدراج التي رأيناها بعد الحفر قرابة المترين"، يريد أن المسعى ارتفع بأسباب الردم الذي تعاقب عليه، ومن المعلوم أن قاعدة الجبل أعرض من رأسه. (رجوع)
|