بقلم
فضيلة الشيخ "أبو عبيدة" مشهور بن حسن آل سلمان
حفظه الله تعالى ورعاه
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ،
وآله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه ، وصلى بصلاته إلى يوم الدين ، قال تعالى
: { يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:88-89].
أما
بعد .
خصَّصتُ المقالة السابقة لبيان غَلَط ما في كتاب المَدعوّ (مراد شكري(: «رفع الحرج والآصار عن المسلمين في هذه الأعصار» من تحقيق مناط الفلوس، وأنها ليست من العُروض، وركّزت في ذلك على مـا أصّلـه العـلامةُ الثعالبي الحجوي في كتابه «الأحكام الشرعيّة في الأوراق الماليّة».
ومما ينبغي أن يُذكر هنا:
أنّ فتوى مراد شكري -في حِلّ التعامل مع البنوك الربويّة، دون أي قيد وشرط-تشتمل على أغلاط عدّةٍ، لا من جهة تحقيق المناط –الذي بيّنّاه سابقاً- فحسب، بل من جهـة الترجـيح، الـذي نظن أنّ لكلّ باحـث منصف -ذي أهليّة- الحريّةَ فيه، ومن جهة التخليط في النقل وحكاية الأقوال –أيضاً-:
ونحن -إجابة لدعوة عدد لا بأس به من قرّاء المجلة- ننبّه على أصل تلك الأغلاط، خدمة للشريعة، وتحقيقاً للحق، وتنقيحاً للمسألة؛ حتى تكتمل الاستفادة منها:
أولاً: لا ينبغي لطالب علم أن يفهم -البتّة- أنه لم يحرّم التعامل مع البنوك الربويّة بأخذ المال الفائض مقابل الزمن إلا الحجوي الثعالبي!
وليت شعري؛ ما الذي جعل البعض يفهم هذا، وقد صرّحتُ أنّ (مراداً) لم يوافقه على مراده من كتابه إلا الحبشيُّ، وأزيد عليهما –الآن-(1) بعض النكرات من غير المعروفين بـالتحقيق والعلم، المتجردين للدليل، الناصرين للسنّة.
ثانياً: إنّ العلماء الكبار ومحققيهم منذ ظهور الأوراق النقديّة إلى الآن على القول بوجوب الزكاة فيها، وعدم جواز النسيئة بالتأخير، وعدم جواز الزيادة في إقراضها، وأنّ ذلك يُسمّى (ربا)، وأنّ الوعيد والتهديد الوارد في النصوص القرآنيّة والأحاديث النبويّة يشملها، وعلى هذا مشايخنا الكبار: الألباني، وابن باز، وابن العثيمين، وتلاميذهم المعروفون.
ثالثاً: نَقْلُهُ عن الشيخ السعدي وتلميذه الشيخ العثيمين –رحمهما الله- التفريق بين النقود الورقيّة والفلوس المعدنيّة حتى تكون سلعة، أو مثل السلعة (عروضاً) يجوز فيها التفاضل عند القرض والدين، وأنّ ذلك واقع في كلام بعض الفقهاء!
وإنّـما هـذا -عندهم- محصور بتبادل الفلوس المعدنيّة بالورقيّة، مع التبادل -عند الصرف- باعتبارها أجناساً مختلفة لا يتصور فيها الربا لاختلاف الجنس، يعني: أنه يجوز مبادلة الذهب بالفضّة مع اختلاف الوزن بينها والقيمة، إذا كان في مجلس واحد، وهو بمعنى جواز مبادلة ألف درهم إماراتي بخمس مئة دولار أمريكي -مثلاً- يداً بيد.
ولكن لم يُجز الشيخ السعدي وابن عثيمين –كما توهّم بعض قرّاء رسالة «....الآصار»، وكان لمؤلفه من خلال طريقة العرض، والتركيز على مبتغاه في كتابه- دورٌ في هذا الإيهام-: ما توصل إليه مِن القول بجواز مبادلة ألف دينار بألف وزيادة بنسيئة، كما هو جارٍ في البنوك الربويّة هذه الأيام!
وهي أظهر صورة للربا، وأكثرها شيوعاً بين الناس.
وإذا كان الربا في الأحاديث بضعاً وسبعين شعبة، وأنّ بعض هذه الشعب خفيّة ودقيقة، فلا أدري ما الربا الواقع في هذه الأيام، وأين شُعبَه؟! على التقرير الباطل المزبور!!
رابعاً: أُراني مضطراً هنا إلى سرد آراء هيئات علميّة معتبرة، يرأسها فقهاء الزمن، وعلماء الوقت، ليرعوي من تأثّر بكلامه، أو اغترّ به:
* فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربيّة السعوديّة:
جاء في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربيّة السعوديّة في جلستها المنعقدة في 17/4/93 أنّ هيئة كبار العلماء تقرّر -بأكثريّتها- أنّ الورق النقدي يعد نقداً قائماً بذاته، كقيـام النقديّـة في الذهب والفضّة وغيرهما من الأثمان، وأنه أجناس تتعدّد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى أنّ الورق النقدي السعودي جنس، وأنّ الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا؛ كل عملة ورقيّة جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الآتية:
أولاً: جريـان الربا –بنوعيه- فيها كما يجري الربا –بنوعيه- في النقدين الذهب والفضّة، وفي غيره من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي:
أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقديّة الأخرى، من ذهب أو فضّة أو غيرهما نسيئة، فلا يجوز –مثلاً- بيع الدولار الأمريكي بخمسة ريالات سعوديّة أو أقل أو أكثر نسيئة.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحـد منه بعضه ببعض متفاضلاً؛ سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد، فلا يجوز –مـثلاً- بيـع عشر ريالات سعوديّة ورق بأحد عشر ريالاً سعودياً ورقاً.
جـ- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه –مطلقاً- إذا كان ذلك يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السوريّة أو اللبنانيّة بريال سعودي ورقاً كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الـدولار الأمريكي بثلاث ريالات سعوديّة أو أقل أو أكثر إذا كان ذلك يداً بيد.
ومثـل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة، بثلاثة ريالات سعوديّة ورق أو أقل أو أكثر يداً بيد؛ لأنّ ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانياً: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعُروض المعدّة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثاً: جواز جعلها (رأسَ مالٍ) في السلَم والشركات.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
* فتوى قرار المجمع الفقهي الإسلامي:
جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة فيما بين 8-16 من شهر ربيع الثاني سنة 1402هـ حول (العملة الورقيّة) ما نصّه:
فقد اطلع المجمع على البحث المقدّم إلى مجلس المجمع في موضوع العملة الورقيّة وأحكامها من الناحية الشرعيّة، وبعد المناقشة والمداولة بين أعضائه قرّر المجمع الفقهي الإسلامي ما يلي:
أولاً: أنه بناءً على أنّ الأصل في النقد هو الذهب والفضّة، وبناءً على أنّ علّة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنيّة -في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة-، وبما أنّ الثمنيّة لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضّة، وإن كان معدنهما هو الأصل.
وبما أنّ العملة الورقيّة قد أصبحت ثمناً، وقامت مقام الذهب والفضّة في التعامل بها، وبها تُقَوّمُ الأشياء في هذا العصر، لاختفاء التعامل بالذهب والفضّة، وتطمئنّ النفوس بتموّلها وادّخارها، ويحصل الوفاء والإبراء بها، رغم أنّ قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها كوسيط في التداول، وذلك هو سر مناطها بالثمنيّة.
وحيث إنّ التحقيق في علّة جريان الربا في الذهب والفضّة هو مطلق الثمنيّة، وهي متحققة في العملة الورقيّة، لذلك كلّه فإنّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرّر:
أنّ العملة الورقيّة نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضّة فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه -فضلاً ونَساء- كما يجري ذلك في النقدين من الذهب والفضّة تماماً، باعتبار الثمنيّة في العملة الورقيّة قياساً عليهما، وبذلك تأخذ العملة الورقيّة أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانياً: يعتبر الورق النقدي نقداً قائماً بذاته كقيام النقديّة في الذهب والفضّة وغيرها من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناساً مختلفة تتعدّد بتعدّد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أنّ الورق النقدي السعودي جنس، وأنّ الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقيّة جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه -فضلاً ونَساء- كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضّة، وفي غيرها من الأثمان.
وهذا كلّه يقتضي ما يلي:
أ- لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس النقديّة الأخرى من ذهب وفضّة أو غيرها نسيئة مطلقاً، فلا يجوز –مثلاً- بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلاً نسيئة بدون تقابض.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقيّة بعضه ببعض متفاضلاً سواء كان ذلك نسيئة أو يداً بيد، فلا يجوز –مثلاً- بيع عشرة ريالات سعوديّة ورقاً بأحد عشر ريالاً سعودياً ورقاً نسيئة أو يداً بيد.
جـ- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقاً إذا كان ذلك يداً بيد، فيجوز بيع الليرة السوريّة أو اللبنانيّة بريال سعودي ورقاً كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعوديّة أو أقل من ذلك أو أكثر إذا كان يداً بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضّة بثلاثة ريالات أو أقل من ذلك أو أكثر يداً بيد؛ لأنّ ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثالثاً: وجوب زكاة الأوراق النقديّة إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضّة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المُعَدّة للتجارة.
رابعاً: جواز جعل الأوراق النقديّة رأسَ مالٍ في بيع السلَم والشركات.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
وهذا الأمر ليس خاصّاً بعلماء الحجاز -حفظهم الله -تعالى- بل جرى عليه سائر علماء الأمّة.
والتدليل على ذلك يطول، وأقتصر في الزيادة على ذلك بـ:
* مؤتمر البحوث الإسلاميّة المنعقد في القاهرة في محرم وصفر سنة 1385هـ، جاء في قراراتهم ما نصّه:
«الفائدة على أنواع القروض كلّها محرّمة، ولا فرق في ذلك بين ما يُسمّى بالقرض الاستهلاكي، وما يُسمّى بالقرض الإنتاجي؛ لأنّ نصوص الكتاب والسنّة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين».
* الندوة الفقهيّة الأولى لبيت المال الكويتي، جاء في توصياتها -وقد انعقدت سنة 1407هـ-:
«تأكيد ما انتهى إليه مجمع الفقه الإسلامي بجدّة: أنّ هذه الأوراق قامت مقام الذهب والفضّة في التعامل بيعاً وشراء، وإبراءاً وإصداقاً، وبها تقدّر الثروات، وتدفع المرتبات، ولذا تأخذ أحكام الذهب والفضّة، ولا سيما في وجوب التناجز في مبادلة بعضها ببعض، وتحريم النَّساء (التأخير) فيها».
وليس همّي في هذه المقالة المختصرة الإطالة في النقولات، وفيما ذكرنا كفاية، والله الهادي والواقي.
خامساً: الذي أوقع (مُراداً) فيما ذهب إليه: استشكالُه –إن كان هو حقّاً- إلحاقَ هذه النقود الورقيّة بالذهب والفضّة، ووقوفُه على فروق معتبرة بينها، وقصرُهُ العِلِّيَّة عليهما!
وقد وضّحنا -في المقالة السابقة- أنّ الإلحاق بالأصناف الستّة الربويّة الواردة في الأحاديث النبويّة لا بجامع العليّة، وإنّما بجامع تحقيق –أو ترجيح- نفي الفارق المؤثر بينها وبين ما شابهها على النحو الذي فصّلناه.
وباب الفروق الفقهيّة -ومدى سَرَيان الحكم حال تحققها أو تخلُّفه أو تحقيق الأثر المتبقي بين الأصل والفرع من السنّة- باب دقيق مشكل، ولذا مثّلتُ على فقه الواقع (تحقيق المناط عند الأصوليين) بهذه المسألة التي ولج فيها (مراد) فلم يُحكمِها، وبمجرد وقوفه على فروق بين (الذهب والفضّة) من جهة، و(النقود الورقيّة) من جهة أخرى: ظنّ أنّ هذا الفرق له أثر في انفكاك الحكم، والأثر المترتب عليهما!
وقد أحكم هذا الفرقَ أستاذُنا مصطفى الزرقا، فبعث رسالة إلى مؤلف «الورق النقدي» (ص147) قال فيها:
«إننا نعتبر الأوراق النقديّة المذكورة من قَبيل الوضعيّة، لا من قَبيل الإسناد المعترف فيها باستحقاق قيمتها على الجهة التي أصدرتها من دولة أو مصرف إصدار، وإن كانت هذه الصفة الأخيرة هي أصلها.
ومنطلق فكرة إحلال الأوراق النقديّة المعروفة بين الناس باسم (بنكنوت) محل النقود الذهبيّة والفضيّة في التداول، أخذاً وعطاءً ووفاءً؛ وذلك لأنّ صفة السَّنَدِيّة فيها قد تُنُوسيت مـن الناس في عرفهم العام، وأصبحوا لا يرون في هذه الأوراق إلا نقوداً مكفولة حلّت محل الذهب في التداول تماماً، وانقطع نظر الناس إلى صفة السَّنَدِيّة في أصلها انقطاعاً مطلقاً، تلك الصفة التي كانت في الأصل حين ابتكار هذه الأوراق، لإحداث الثقة بها بـين الناس لينتقلوا في التعامل عن الذهب إليها -حين يعلمون أن لا تغطية ذهبيّة في مركز الإصدار-، وأنها سند على ذلك المركز بقيمتها، مستحق لحامله، يستطيع قبضه ذهباً متى شاء، هذا أصلها.
أمّا بعد أن ألِفَها الناس، وسالت في الأسواق تداولاً ووفاء من الدولة، وعليها، وبين الناس، ولمس المتعاملون بها مزيتها في الخفّة وسهولة النقل، فقد تُنُوسي –كما ذكرنا- فيها هذا الأصل السَّنَدي، واكتسب في نظر الجميع واعتبارهم وعـرفهم صفة النقد المعدني، وسيولته، بلا فرق، فوجب بذلك اعتبارها بمثابة الفلوس الرائجة من المعادن غير الذهب والفضّة، تلك الفلوس التي اكتسبت صفة النقديّة بالوضع والعرف والاصطلاح، حتى إنها -وإن لم تكن ذهباً أو فضّة- لتعتبر -بحسب القيمة التي لها- بمثابة أجزاء للوحدة النقديّة الذهبيّة التي تسمّى ديناراً، أو ليرة، أو جنيهاً ذهبيّاً -بحسب اختلاف التسمية العرفيّة بين البلاد للوحدة –من النقود المسكوكة الذهبيّة-.
وهذا حال الفلوس الرائجة من المعادن المختلفة غير الذهب والفضّة بالنظر الشرعي، وهو الصفة التي يجب إعطاؤها -في نظرنا- للأوراق النقديّة (البنكنوت)، فتبديل جنس منها كالـدينار الكويتي الورقي، أو الليرة السوريّة أو اللبنانيّـة –مثلاً- بجنس آخـر كالجنيه المصري أو الأسترالي، أو الدولار الأمريكي -مثلاً- يعتبر كالمصارفة بين الذهب والفضّة، والفلوس المعدنيّة الرائجة على سواء.
والقاعدة الفقهيّة في هذه المصارفة أنه عند اختلاف الجنس يجوز التفاضل في المقدار بين العِوَضين، ولكن يجب التقابض في المجلس من الجانبين منعاً للربا المنصوص عليه في الحديث النبوي». انتهى كلامه.
سادساً: ومما زاد الطينَ بِلّة ، والسُّوءَ عِلّة: خطأ منهجي آخـر، وقع فيه (مراد)، وهو معاملته كلام (بعض) الفقهاء في (الفلوس) معاملة (النصوص)، فجعله ثابتا حاكماً مطرداً!
وهذا من الظلم البيِّن، والتدليل عليه يحتاج إلى نظر في (تطور النقود)، وهذه المقالة لا تتسع لذلك! والذي يهمني التركيز عليه –هنا- هو:
أنّ كلام بعض فقهائنا الأقدمين في جواز بيع الفلس بالفلسين صحيح؛ لأنه (في زمنهم) عروض، ولكن ذكرت بعض كتب الفقه قيداً لا بدّ منه في هذه الصورة، وهو (كساد الفلوس).
جاء في «بدائع الصنائع» (6/59) للكاساني: «وأمّا الفلوس فإن كانت كاسدة فلا تجوز الشركة ولا المضاربة بها؛ لأنها عُروض».
ومعنى هذا أنّ الفلوس إذا بطل التعامل بها(2) فإنّ لها قيمة في نفسها، فتصبح (عروضاً).
وهذا المعنى لم ينفك عنها في أول ضربها، وعليه يُحمل ما في كتب الفقه القديمة، ففي «فتح القدير» لابن الهـمام –مثلاً-: «ولو استقرض فلوساً نافعة فكسدت: عند أبي حنيفة –رحمه الله- يجب عليه مثلها؛ لأنه إعارة وموجبه ردّ العين –معنى-، والثمنيّة فضل فيه، إذ القرض لا يُختص به . . . ».
فـانظر –أخي القارئ -رعاك الله- إلى قوله: «والثمنيّة فضل فيه» أي: شيء زائد عن كونها سلعة، فكلام السابقين من الفقهاء يصلح تنزيله باعتبار حالهم، ولا يجوز التفريع والتخريج عليه إلا بعد تصوّره، ويجب أن ينزل في محلّه المناسب له، ومتى تلازمت (الثمنيّة) مع (النقود) أو (الأوراق الماليّة) -أو غلبت عليها- فلها حكم آخر غير (العروض).
جاء في «بدائع الصنائع» (6/59): «وعند محمد: الثمنيّة لازمة للفلوس النافقة، فكانت من الأثمان، ولهذا أبى جواز بيع الواحد بـاثنين مـنهما، فتصلح رأس مـال الشركة كسائر الأثـمان مـن الدراهم والدنانير».
ولا شكّ أنّ الثمنيّة اليوم لازمة للنقود الماليّة، وسواء كانت ورقاً أو معدناً، وعلى الرغم مـن أنها ليست نائبة عن الذهب والفضّة ولا عن الفضّة بوجه ثابت ومحدد، بمعنى: أنها ليست مربوطة ربطاً ثابتاً بها(3)، ولكنها -بلا شك- وسيلة لتقييم السلَع والمجهودات، ومطلوبة من جميع الأفراد، والفتنة(4) حاصلة في الأنام بسببها، ومُزَيَّن حبها للنفوس، ونكران ذلك تنكب للمحسوس، وهي مقبولة عند جميع العقلاء في إبراء الذمة، وذلك لا لذاتها، وإنّما لقابليتها للاستبدال بأي مال، فنفي الفارق المؤثر في العِلِّيّة بين النقود المتعارف عليها –اليوم-، والذهب والفضّة –قديماً- في التعامل وطريقته، وآثاره هو الذي جعل حكمهما واحداً، على النحو الذي نقلناه -في العدد السابق- عن ابن رشد، عند تحقيق المناط في عِلْيّةَ الربا في الذهب والفضّة.
والجُرْمُ الذي وقع فيه (مراد) –وأوقعه!-أنه جعل الأوراق النقديّة بالطريقة المتعامل بها مِن (العُروض)! وفرّع عليه بعدم جريان الربا فيها نسيئة، ولم يكتف بذلك، وإنما أخذ بنقل كلام السابقين، موهماً القرّاء أنّ الرأي الذي انفرد به هو قول الجماهير السابقين المعتبرين، غير محقق لكلامهم، منزلاً إياه في غير موضعه!
فالخلاف بيننا وبينهم ليس خلاف دليل وبرهان، وإنّما هو خلاف زمان وأوان، وإلى الله وحده المشتكى من صنيعه، الذي ارتكب بسببه أقوام –محسوب بعضهم -يا للأسف- من طلبة العلم- لكبيرة من الكبائر، ولا قوّة إلا بالله!
سابعاً: لعلّي في هذا التحقيق المبني –إن شاء الله- على التدقيق قد أزحت اللثام، وحرّرت المقام في مسألة يحتاجها كثير من الأنام، وإن تساهلوا فيها بالإصغاء إلى الوساوس والأوهام، فإن ذلك يفتح عليهم باباً لارتكاب كبيرة من الكبائر العظام.
وإني داعٍ مؤلف كتاب «....الآصار» وناشره وبائعه إلى إعلان التوبة عمّا ارتكبوه من دعوة الناس إلى التعامل مع البنوك بأخذ الربا، فإنّ هذه التوبة –إن تقبّلها ربنا- هي التي ترفع –حقيقةً-الحرج والآصار والآثام.
ولا أدري من الذي أَوْقَعَ (مُراداً) في هذا الحرج الشديد، وقد كان في سعة من أمره، فإن رأى الحِلَّ –لسببٍ أو آخر- فَلْيقتصر به على نفسه، ولا يتحمّل أوزار الناس وآصارهم.
فهل رأى مراد أنّ الناس قد أصبحوا أصحاب ورع وخوف من الله في الولوج والتعامل مع البنوك على وجه عطّل لهم مصالح معتبرة أم ماذا؟
إنّه النظر العليل، والفهم السقيم، والتقدير العقيم.
لا –والله- بل هي أخت ذَنْب الولوج في أعراض البرآء من طلبة العلم، وأكل لحومهم، والقدح فيهم بظن وتخمين، وتتبُّع عوراتهم على وجه مشين، فلْيتّق ربه، وليعلن تراجعه(5) فيما ارتكبه.
واحرص أنت أيها المقلّد المسكين أن تقلّد نكرةً(6)، واسأل نفسك: أتترك قولاً تتابع عليه العلماء قديمهم وحديثهم بشبهةٍ ألقاها الشيطان على لسان واحد -هو على أحسن أحواله طُويلب علم-، وحاسب نفسك عن سرّ ميلك لهذا القول، أهي الدنيا وملذّاتها؟!
فإنّ هذا –والله- لا ينفعك عند الله –عزَّ وجل- { يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء:88-89].
فيا هذا ارعوِ! ولا تكذب على نفسك، ولا تفتري على ربّك، فإنّك موقوف بين يديه، محاسب عن مالك: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ فأعدّ لهذا جواباً.
ثامناً: وأخيراً؛ لا بدّ من التركيز على أنّ الشرع مصلح(7) لجميع الأزمنة والأمكنة، وأنّ القواعد العامّة التي استنبطها أهل العلم من عموم النصوص (لفظاً ومعنىً).
وما صِيغ على شكل قواعد وضوابط، ونَتَاج ما ولّدته قـرائـح العلماء الجهابذة وتأصيلاتهم ينبغي أن يبقى مدّخراً في رصيد طلبة العلم، وهو خيرُ زادٍ لتحصيل المَلَكات عندهم، والخروج عن ذلك بالتقاط عبارات لبعض العلماء دون النظـر إلى أصولها، ومعرفة من أين مأخذها!
فهذا منهج أصحاب النفوس القلقة، أو عمل المتشبعين وهو غير مهيع الربانيين، بل هو منهج تتولّد عنه أسقام، وهو مظنة مزلة الأقدام، وضلال الأفهام، ولا سيما إن عاملت (العبارات) الظرفيّة -المحكومة بزمان، ومكان، وظروف، وملابسات- معاملة نصوص الوحيين الشريفين، اللذَين فيهما العصمة، والشمول، والثبات، والحاكميّة.
ولا يجوز البتّة تعطيلُ معاني التشريع وحِكَمه –عـلى الـرغم ممـا أُحـدث من المستجدات-، ومنه: تعطيل الزكاة في الأوراق النقديّة، فيكفي -في بطلان هذا القول- النتائج الخطيرة المترتبة عليه، ومثله -سواء بسواء- القول بعدم جريان الربا في هذه الأوراق، فإنّ هذا مدعاة لحصر المال تحت أيدٍ قليلة، واستعباد الناس، والتحكم في أرزاقهم.
جاء في «سعد الشموس» (1/385): «إذا اجتمعت عندك الشروط المصلحيّة الاحتياطيّة الجالبة للمصالح، الدارئة للمفاسد، فأَفْتِ، واحكُم، وإلا؛ فلا تتبع الهوى» انتهى.
هذا ما لدينا من التحقيق، وبيده -تعالى- أَزِمّةُ التوفيق.
ـــــــــــــــــــ
(1) لم يقل بالجواز أحدٌ –حتى ممّن عرف عنه تساهل في بعض الأحكام– ولا سيما فيما يخص المعاملات–، فذهب للحرمة –مثلاً– القرضاوي.
ولأستاذنا مصطفى الزرقا –رحمه الله– كلمة تأصيليّة مطولة في الربا في الأوراق النقديّة، تنظر في كتاب «الورق النقدي» للشيخ عبدالله بن سليمان بن منيع –حفظه الله– (ص147 وما بعد)، وسيأتي ما يلزم منها.
والله الموفق.
ومنه تعلم مقدار جرأة مراد شكري فيما قرره.
وقد نُمي إليّ أنه عرض كتابه على الشيخ أحمد السالك، وعلى الشيخ شعيب الأرناؤوط، وأنهما –وفقهما الله– أنّباه، وبالرجوع عن قوله أو الاحتفاظ به لنفسه نَصَحاه!
(2) وهذا هو كسادها.
(3) كان عند أول ضرب النقود يكتب على الليرة -مثلاً-: إنّ المصرف يتعهّد لمن يعطيه ليرة كذا من الفضّة، أو كذا من الذهب، فأضحى أن لا يرد إلا مثل ما أخذ، ورضيت الناس بهذا، وأصبحت الأوراق المصرفيّة التي يصدرها أي بنك خالية من هذا التعهد، وغدا هذا التعهد اليوم عبثاً لا مغزى منه، إذ من بيده ذهب أو فضّة لا يستطيع شراء شيء حتى يحوله إلى عملة ورقيّة، وكان هذا قديماً في الصين، قال ابن بطوطة في «رحلته»: «وأهل الصين لا يتبايعون إلا بقطع كاغد –أي: ورق- على قدر الكفّ مطبوعة بطابع السلطان، وإن تمزّقت الكواغد في يد إنسان حملت إلى دار تشبه دار السكة، وأبدلت بكاغَد جديد بدون أن يعطي شيئاً من العِوَض عليها، وإذا مضى إنسان إلى السوق بدراهم فضيّة أو دنانير يريد شراء شيء لم يؤخذ منه، ولم يلتفت إليه حتى يصرفه بـ(البالشت) نقود الكاغَد ثمّ يشتري به ما أراد».
(4) صحّ أنّ النبي قال: «فتنة أمتي المال»، وللسخاوي رسالة مطبوعة بتحقيقي –ولله الحمد– بعنوان: «السر المكتوم في الفرق بين المالين المحمود والمذموم»، وقدمت لها بمقدمة ضافية في أنه: متى يُمدح المال؟ ومتى يُذم؟ فراجعها غير مأمور.
(5) إن فعل؛ فقد سبقه لذلك جماعة من الفضلاء، فقد كان الشيخ محمود شلتوت يقول بهذا القول، ورجع عنه عند حصول مرض له، نقل ذلك صاحبُ كتاب «كبرى اليقينيّات الكونيّة» (ص269)، بل قال الدكتور العتر: لكن وقفت على سند يدل على رجوعه قبل ذلك بزمن، أخبرني من يوثق به من أهل العلم أنه قال لبعض الزوار في البيت: لا تأخذوا بفتواي في التأمين، ويؤكد ذلك أنّ كتابه في «التفسير» بعد «الفتاوى» له، وهو فيه يحرّم ربا البنوك اليوم.
ونشر الشيخ عبدالوهاب خَلّاف في العددين الحادي عشر والثاني عشر من مجلة «لواء الإسلام» عام 1915م حِلَّ الإيداع في صندوق التوفير بفائدة، وذكر الأستاذ صبري عابدين أنّ الأستاذ خَلّافاً كان في ندوة «لواء الإسلام» لبحث موضوع الربا، وكان له رأي خاص في بعض أنواع الربا، ولكنّه بعد أن استمع إلى ما قاله الإخوان جميعاً رجع إلى رأيهم، انظر «موقف الشريعة الإسلاميّة من المصارف الإسلاميّة» (ص131-134) للباحث السعودي عبدالله عبدالكريم العبادي.
(6) يؤكد لك ذلك: أن تسأل صاحب هذا القول محدداً موضّحاً حاصراً مبتغاك بقولك: مَن مِن العلماء المعتبرين، أو طلبة العلم المعروفين يقول بقولك؟!
وعندها لن تسمع إلا جعاجع وقعاقع وفراقع!
(7) عبارة (الشرع صالح لكل زمان ومكان) قاصرة؛ لا تسلب الإصلاح عن غيره، بخلاف عبارة (مصلح) فتأمّل!
|